فصل: حوادث سنة ست وخمسين ومائتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.حوادث سنة ست وخمسين ومائتين:

.ذكر وصول موسى بن بغا إلى سامرا واختفاء صالح:

وفيها في قاني عشر المحرم دخل موسى بن بغا إلى سامرا وقد عبأ أصحابه، واختفى صالح بن وصيف، وسار موسى إلى الجوسق، والمهتدي جالس للمظالم، فأعلم بمكان موسى، فأمسك ساعة عن الإذن له، ثم أذن له ولمن معه، فدخلوأن فتناظروأن وأقاموا المهتدي من مجلسه، وحملوه على دابة من دواب الشاكرية، وانتهبوا ما كان في الجوسق، وأدخلوا المهتدي دار ياجور. وكان سبب أخذه أن بعضهم قال: إمنا سبب هذه المطاولة حيلة عليكم حتى يكسبكم صالح بجيشه؛ فخافوا من ذلك، فأخذوه، فلما أخذوه قال لموسى بن بغا: اتق الله، ويحك، فإنك قد ركبت أمراً عظيماً؛ فقال له موسى: وتربة المتوكل ما نريد إلا خيراً؛ ولوأراد به خيراً لقال وتربة المعتصم والواثق؛ ثم أخذوا عليه العهود أن لا يمايل صالحأن ولا يضمر لهم إلا مثل ما يظهر؛ ثم جددوا له البيعة، ثم أصبحوأن وأرسلوا إلى صالح ليحضر ويطالبوه بدماء الكتاب، والأموال التي للمعتز وأسلابه، فوعدهم؛ فلما كان الليل رأى أن أصحابه قد تفرقوا ولم يبق إلا بعضهم، فهرب واختفى.

.ذكر قتل صالح بن وصيف:

وفيها قتل صالح بن وصيف لثمان بقين من صفر؛ وكان سبه أن المهتدي لما كان لثلاث بقين من المحرم أظهر كتاباً زعم أن امرأة دفعته إلى سيما الشرابي، وقالت: إن فيه نصيحة، وإن منزلها بمكان كذأن فإن طلبوني فأنا فيه. وطلبت المرأة فلم توجد، وقيل إنه لم يدر من ألقى الكتاب.
ودعا المهتدي القواد، وسليمان بن وه، فأراهم الكتاب، فزعم سليمان أنه خط صالح، فقرأه على القواد، فإذا أنه مستخف بسارمأن وإمنا استتر طلباً للسلامة وإبقاء الموالي، وطلباً لانقطاع الفتن، وذكر ما صار إليه من أموال الكتاب، وأم المعتز، وجهة خروجهأن ويدل فيه على قوة نفسه؛ فلما فرغوا من قراءته وصله المهتدي بالحث على الصلح، والاتفاق، والنهي عن التباغض والتباين، فاتهمه الأتراك بأنه يعرف مكان صالح ويميل إليه، وطال الكلام بينهم في ذلك.
فلما كان الغد اجتمعوا بدار موسى من بغا داخل الجوسق، واتفقوا على خلع المهتدي، فقال لهم بابكيال: إنكم قتلتم ابن المتوكل، وهوحسن الوجه، سخي الكف، فاضل النفس، وتريدون قتل هذأن وهومسلم يصوم ولا يشرب النبيذ، من غير ذنب! والله لئن قتلتم هذا لأحقن بخراسان لأشيع أمركم هناك.
فاتصل الخبر بالمهتدي، فتحول من مجلسه متقلداً سيفأن وقد لبس ثياباً نظافاً وتطيب، ثم أمر بإدخالهم عليه، فدخلوا فقال لهم: بلغني ما أنتم عليه، ولست كمن تقدمني، مثل المستعين أمر بإدخالهم عليه، فدخلوا فقال لهم: بلغني ما أنتم عليه، ولست كمن تقدمني، مثل المستعين والمعتز، والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط، وقد أوصيت إلى أخي بولدي، وهذا سيفي والله لأضربن بهخ ما استمسك قائمة بيدي، والله لئن سقط منس شعرة ليهلكن وليذهبن أكثركم.
كم هذا الخلاف على الخلفاء، والإقدام، والجرأة على اله! سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم، ومن كان إذا بلغه هذا منكم دعا بالنبيذ فشربه مسروراً بمكروهكم، حتى تعلموا أنه وصل إلى شيء من دنياكم، أما إنكم لتعلمون أن بعض المتصلين بكم أيسر من جماعة من أهلي وولدي سوأة لكم، يقولون: إني أعلم بمكان صالح، وهل هوإلا رجل من الموالي؟ فكيف الإقامة معه إذا ساء رأيكم فيه؟ وإذا أبرمتم الصلح فيه كان ذلك ما أنفذه لجميعكم، وإن أبيتم فشأنكم، واطلبوا صالحأن وأما أنا فما أعلم مكانه.
قالوا: فاحلف لنا على ذلك! قال: أما اليمين فنعم، ولكنها تكون بحضرة بني هاشم والقضاة غداً إذا صليت الجمعة، ثم قال لبابكيال ولمحمد بن بغا: قد حضرتما ما عمله صالح في أموال الكتاب وأم المعتز، فإن أخذ منه شيئاً فقد أخذتما مثله. فأحفظهما ذلك؛ ثم أرادوا خلعه، وإمنا منعهم خوف الاضطراب وقلة الأموال، فأتاهم مال من فارس عشرة آلاف ألف درهم وخمس مائة ألف درهم، فلما كان سلخ المحرم اتشر الخبر في العامة أن القوم قد اتفقوا على خلع المهتدي والفتك به، وأنهم قد أهقوه، وكتبوا الرقاع ورموها في الطريق والمساجد، مكتوب فيها: يا معشر المسلمين ادعوا الله لخليفتكم العدل، الرضأن المضاهي لعمر بن الخطاب، أن ينصره على عدوه، ويكفيه مؤونة ظالمه، وتتم النعمة عليه، وعلى هذه الأمة ببقائه، فإن الأتراك قد أخذوه بأن يخلع نفسه، وهويعذب منذ أيام، وصلى الله على محمد.
فلما كان يوم الأربعاء لأربع خلون من صفر تحرك الموالي بالكرخ والدور، وبعثوا إلى المهتدي، وسألوه أن يرسل إليهم بعض إخوته ليحملوه رسالة، فوجه إليهم أخاه أبا القاسم عبد الله، فذكروا له أنهم سامعون مطيعون، وأنهم بلغهم أن موسى، وبابكيال، وجماعة معهمأن يريدونه على الخلع، وأنهم يبذلون دماءهم دون ذلك وما هم دون ذلك، وشكوا تأخر أرزاقهم، وما صار من الأقطاع، والزيادات، والرسوم إلى قوادهم التي قد أجحفت بالخراج والضياع، وما قد اخذوا النساء والدخلاء، فكتبوا بذلك كتابأن فحمله إلى المهتدي وكتب جوابه بخطه: قد فهمت كتابكم، وسرني ما ذكرتم من طاعتكم، فأحسن الله جزاءكم، وأما ما ذكرتم من خلتكم وحاجتكم فعزيز علي ذلك، ولوددت، والله، أن صلاحكم يهيأ بأن لا آكل ولا اشرب ولا أطعم ولدي إلا القوت، ولا أكسوه إلا ستر العورة، وأنتم تعلمون ما صار إلي من الأموال، وأما ما ذكرتم من الإقطاعات وغيرها فأنا أنظر في ذلك وأصرفه إلى محبتكم إن شاء الله تعالى.
فقرأوا الكتاب وكتبوأن بعد الدعاء، يسألون أن يرد الأمور في الخاص والعام إلى أمير المؤمنين، لا يعترض عليه معترض، وأن يرد رسومهم إلى ما كانت عليه أيام المستعين، وهوأن يكون على كل تسعة عريف، وعلى كل خمسين خليفة، وعلى كل مائة قائد، وأن يسقط النساء والزيادات، ولا يدخل مولى في ماله ولا غيره، وأن يوضع لهم العطاء كل شهرين، وأن تبطل الإقطاعات؛ وذكروا أنهم سائرون إلى بابه ليقضي حوائجهم، وإن بلغهم أن أحداً اعترض عليه أخذوا رأسه، وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا بها موسى بن بغا وبابكيال وياجور وغيرهم.
وأرسلوا الكتاب مع أبي القاسم، وتحولوا إلى سامرأن فاضطرب القواد جداً؛ وقد كان المهتدي قعد للمظالم، وعنده الفقهاء والقضاة، وقام القواد في مراتبهم، فدخل أبوالقاسم إليه بالكتاب، فقرأه للقواد قراءة ظاهرة، وفيهم موسى، وكتب جوابه بخطه، فأجابهم إلى ما سألوأن ودفعه إلى أبي القاسم، فقال أبوالقاسم لموسى بن بغا وبابكيال ومحمد بن بغا: وجهوا معي رسلاً يعتذرون إليهم عنكم؛ فوجهوا معه رسلأن فوصلوا إلى الأتراك، وهم زهاء ألف فارس، وثلاثة آلاف راجل، وذلك لخمس خلون من صفر، فأوصل الكتاب، وقال: إن أمير المؤمنين قد أجابكم إلى ما سألتم، وقال لهم: هؤلاء رسل القواد إليكم، ويعتذرون من شيء إن كان بلغكم عنهم، وهم يقولون إمنا أنتم إخوة، وأنتم منا وغلينأن واعتذر عنهم.
فكتبوا إلى المهتدي يطلبون خمسة توقيعات، توقيعاً بخط الزيادات، وتوقيعاً برد الإقطاعات، وتوقيعاً بإخراج الموالي البرانيين من الخاصة إلى البرانيين، وتوقيعاً برد الرسوم إلى ما كانت عليه أيام المستعين، وتوقيعاً برد البلاجي، ثم يجعل أمير المؤمنين الجيش إلى أحد إخوته أوغيرهم ممن يرى ليرفع إليه أمورهم، ولا يكون رجلاً من الموالي، وأن يحاسب صالح بن وصيف، وموسى بن بغا عما عندهما من الأموال ويجعل لهم العطاء كل شهرين، لا يرضيهم إلا ذلك، ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم وكتبوا كتاباً آخر إلى القواد موسى وغيره ذكروا فيه أنهم كتبوا إلى أمير المؤمنين بما كتبوأن وأنه لا يمنعهم شيئاً مما طلبوا إلا أن يعترضوا عليه، وأنهم إن فعلوا ذلك لم يوافقوهم، وأن أمير المؤمنين إن شاكه شوكة، وأخذ من رأسه شعرة، وأخذوا رؤوسهم جميعأن ولا يقنعهم إلا أن يظهر صالح، ويجتمع هووموسى ابن بغا حتى ينظر أين الأموال.
فلما قرأ المهتدي التوقيعات الخمسة على ما سألوأن وسيرها إليهم مع أبي القاسم وقت المغرب، وكتب إليهم بإجابتهم إلى ما طلبوأن وكتب إليهم موسى بن بغا كذلك، وأذن في ظهور صالح، وذكر أنه أخوه وابن عمه، وانه ما أراد ما يكرهون، فلما قرأوا الكتابين قالوا: قد أمسينأن وغداً نعرفكم رأينأن فافترقوا.
فلما كان الغد ركب موسى من دار الخليفة، ومعه من عسكره ألف وخمس مائة رجل، فوقف على طريقهم، وأتاهم أبوالقاسم، فلم يعقل منهم جواباً إلا كل طائفة يقولون شيئأن فلما طال الكلام انصرف أبوالقاسم، فاجتاز بموسى بن بغا وهوفي أصحابه، فانصرف معه.
ثم أمر المعتدي محمد بن بغا أن يسير إليهم مع أخيه أبي القاسم، فسار في خمس مائة فارس، ورجع موسى إلى مكانه بكرة، وتقدم أبوالقاسم ومحمد بن بغا فواعدهم عن المهتدي، وأعطياهم توقيعاً فيه أمان صالح بن وصيف، موكداً غاية التوكيد، فطلبوا أن يكون موسى في مرتبة بغا الكبير، وصالح في مرتبة أبيه، ويكون الجيش في يد من هوفي يده، وأن يظهر صالح ابن وصيف، ويوضع لهم العطاء، ثم اختلفوأن فقال قوم: قد رضينا؛ وقال قوم: لم نرض؛ فانصرف أبوالقاسم ومحمد بن بغاعبى ذلك، وتفرق الناس إلى الكرخ والدور وسامرا.
فلما كان الغد ركب بنووصيف في جماعة معهم، وتنادوا: السلاح، ونهبوا دواب العامة، وعسكروا بسامرأن وتعلقوا بأبي القاسم، وقالوا: نريد صالحاً! وبلغ ذلك المهتدي، فقال لموسى: يطلبون صالحاً مني كأني أنا أخفيته، إن كان عندهم فينبغي لهم أن يظهروه.
ثم ركب موسى ومن معه من القواد، فاجتمع الناس إليه، فبلغ عسكره أربعة آلاف فارس، وعسكروأن وتفرق الأتراك ومن معهم، ولم يكن لكرخيين ولا للدوريين في هذا اليوم حركة، وجد موسى ومن معه في طلب ابن وصيف، واتهموا جماعة به، فلم يكن عندهم، ثم إن غلاماً دخل داراً وطلب ماء لشربه، فسمع قائلاً يقول: أيها الأمير تنح، فإن غلاماً يطلب ماء، فسمع الغلام الكلام، فجاء إلى عيار فأخبره، فاخذ معه ثلاثة نفر، وجاء إلى صالح، وبيده مرآة ومشط، وهويسرح لحيته، فأخذه، فتضرع إليه، فقال: لا يمكنني تركك ولكني أمر بك على ديار أهلك وقوادك وأصحابك، فإن اعترضك منهم اثنان أطلقتك.
فأخرج حافياً ليس على رأسه شيء، والعامة تعدوخلفه، وهوعلى برذون بأكاف، فأتوا به نحوالجوسق، فضربه بعض أصحاب موسى على عاتقه، ثم قتلوه، وأخذوا رأسه، وتركوا جثته، ووافوا به دار المهتدي قبل المغرب، فقالوا له في ذلك، فقال: واروه، ثم حمل رأسه وطيف به على قناة، ونودي عليه: هذا جزاء من قتل مولاه.
ولما قتل أنزل رأس بغا الصغير، وسلم إلى أهله ليدفنوه، لما قتل صالح قال السلولي لموسى بن بغا:
ونلت وترك من فرعون حين طغى ** وحيث إذ جئت يا موسى على قدر

ثلاثة كلهم باغ أخوحسد ** برميك بالظلم والعدوان عن وتر

وصيف في الكرخ ممثول به، وبغا ** بالجسر محترق بالنار والشرر

وصالح بن وصيف بعد منعفر ** بالحير جثته والروح في سقر

.ذكر اختلاف الخوارج على مساور:

في هذه السنة خالف إنسان من الخوارج اسمه عبيدة من بني زهير العمروي على مساور.
وسبب ذلك أنه خالفه في توبة المخطئ، فقال مساور: نقبل توبته؛ وقال عبيدة: لا نقبل، فجمع عبيدة جمعاً كثيراً وسار إلى مساور، وتقدم إليه مساور من الحديثة، فالتقوا بنواحي جهينة، بالقرب من الموصل، في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين، واقتتلوا أشد قتال، فترجل من عنده، ومعه جماعة من أصحابه، وعرقبوا دوابهم، فقتل عبيدة وانهزم جمعه، فقتل أكثرهم، واستولى مساور على كثير من العراق، ومنع الأموال عن الخليفة، فضاقت على الجند أرزاقهم، فاضطرهم ذلك إلى أن سار إليه موسى بن بغا وبابكيال وغيرهما في عسكر عظيم، فوصلوا إلى السن فأقاموا به، ثم عادوا إلى سامرأن لما نذكره من خلع المهتدي.
فلما ولي المعتمد الخلافة سير مفلحاً إلى قتال مساور في عسكر كبير، حسن العدة، فلما قارب الحديثة فارقها مساور وقصد جبلين يقال لأحدهما زيني، وللآخر عامر، وهما بالقرب من الحديثة، فتبعه مفلح، فعطف عليه مساور وهوفي أربعة آلاف فارس، فاقتتل هوومفلح.
وكان مساور قد انصرف عن حرب عبيدة وقد جمع كثيراً من أصحابه، فلقوا مفلحاً بجبل زيني، فلم يصل مفلح منه إلى ما يريده، فصعد رأس الجبل فاحتمى به، ونزل مفلح في أصل الجبل، وجرى بينهما وقعات كثيرة، ثم أصبحوا يومأن وطلبوا مساورأن فلم يجدوه، وكان قد نزل ليلاً من غير الوجه الذي فيه مفلخ، لما أيس من الظفر لضعف أصحابه من الجراح، فحيث لم يره مفلح سار إلى الموصل، فسار إلى ديار ربيعة سنجار، ونصيبين، والخابور، فنظر في أمرها ثم عاد إلى الموصل، فاحسن السيرة في أهلهأن ورجع عنها في رجب متأهباً للقاء مساور.
فلما قارب الحديثة فارقها مساور، وكان قد عاد إليها عند غيبة مفلح، فتبعه مفلح، فكان مساور يرحل عن المنزل، فينزله مفلح، فلما طال الأمر على مفلح وتوغل في الجبال والشعاب والمضايق وراء مساور، ولحق الجيش الذي معه مشقة ونصب، عاد عنه، فتبعه مساور يقفوأثره، ويأخذ كل من ينقطع عن ساقه العسكر، فرجع إليه طائفة منهم فقاتلوه، ثم عادوا ولحقوا مفلحأن ووصلوا الحديثة، فأقام بها مفلح أيامأن وانحدر أول شهر رمضان إلى سامرأن فاستولى حينئذ مساور على البلاد، وجبى خراجهأن وقويت شوكته، واشتد أمره.

.ذكر خلع المهتدي وموته:

في رجب، الخامس عشر منه خلع المهتدي، وتوفي لاثنتي عشرة ليلة بقيت منه.
وكان السبب في ذلك أن أهل الكرخ والدور من الأتراك، الذين تقدم ذكرهم، تحركوا في أول رجب لطلب أرزاقهم، فوجه المهتدي إليهم أخاه أبا القاسم، وكيغلغ وغيرهمأن فسكنوهم، فرجعوأن وبلغ أبا نصر محمد بن بغا أن المهتدي قال للأتراك: إن الأموال عند محمد وموسى ابني بغأن فهرب إلى أخيه وهوبالسن مقابل مساور الشاري، فكتب المهتدي إليه أربعة كتب يعطيه الأمان، فرجع هووأخوه حيسون، فحبسهمأن ومعهما كيغلغ، وطولب أبونصر محمد بن بغا بالأموال، فقبض من وكيله خمسة عشر ألف دينار، وقتل لثلاث خلون من رجب، ورمي به من بئر فأنتن، فأخرجوه إلى منزله، وصلى عليه الحسن بن المأمون.
وكتب المهتدي إلى موسى بن بغأن لما حبس أخاه، أن يسلم العسكر إلى بابكيال ويرجع إليه، وكتب إلى بابكيال أن يتسلم العسكر، ويقوم بحرب مساور الشاري، وقتل موسى بن بغا ومفلح، فسار بابكيال بالكتاب إلى موسى، فقرأه عليه وقال: لست أفرح بهذأن فإنه تدبير علينا جميعنأن فما ترى؟ فقال موسى: أرى أن تسير إلى سامرأن وتخبره أنك في طاعته ونصرته علي وعلى مفلح، فهويطمئن إليك، ثم تدبر في قتله.
فأقبل إلى سامرأن فوصلها ومعه ياركوج، وأسارتكين، وسيما الطويل، وغيرهم، فدخلوا دار الخلافة لاثنتي عشرة مضت من رجب، فحبس بابكيال وصرف الباقين، فاجتمع أصحاب بابكيال وغيرهم من الأتراك، وقالوا: لم حبس قائدنأن ولم قتل أبونصر بن بغا؟ وكان عند المهتدي صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور، فشاوره فيه، فقال له: إنه لم يبلغ أحد من آبائك ما بلغته من الشجاعة، وقد كان أبومسلم أعظم شأناً عند أهل خراسان من هذا عند أصحابه، وقد كان فيهم من يعبده، فما كان إلا طرح رأسه حتى سكتوأن فلوفعلت مثل ذلك سكنوا.
فركب المهتدي، وقد جمع له جميع المغاربة، والفراغنة، فصير في الميمنة مسروراً البلخي، وفي الميسرة ياركوج، ووقف هوفي القلب مع أسارتكين وطبايغوأن وغيرهما من القواد، فأمر بقتل بابكيال، وألقى رأسه إليهم عتاب بن عتاب، فحملوا على عتاب فقتلوه، وعطفت ميمنة المهتدي وميسرته بمن فيها من الأتراك، فصاروا مع إخوانهم الأتراك، فانهزم الباقون عن المهتدي، وقتل جماعة من الفريقين، فقيل: قتل سبع مائة وثمانون رجلأن وقيل: قتل من الأتراك نحوأربعة آلاف، وقيل: ألفان، وقيل: ألف.
وقتل من أصحاب المهتدي خلق كثير، وولى منهزمأن وبيده السيف وهوينادي: يا معشر المسلمين! أنا أمير المؤمنين، قاتلوا عن خليفتكم! فلم يجبه أحد من العامة إلى ذلك، فسار إلى باب السجن، فأطلق من فيه وهويظن أنهم يعينونه، فهربوا ولم يعنه أحد، فسار إلى دار احمد بن جميل، صاحب الشرطة، فدخلها وهم في أثره، فدخلوا عليه وأخرجوه، وساروا به إلى الجوسق على بغل، فحبس عند أحمد بن خاقان، وقبل المهتدي يده، فيما قيل، مراراً عديدة، وجرى بينهم وبينه، وهومحبوس، كلام كثير أرادوه فيه على الخلع، فأبى واستسلم للقتل، فقالوا: إنه كتب بخطة رقعة لموسى بن بغأن وبابكيال، وجماعة من القواد، أنه لا يغدر بهم، ولا يغتالهم، ولا يفتك بهم، ولا يهم بذلك، وانه متى فعل ذلك فهم في حل من بيعته، والأمر إليهم يقعدون من شاءوا.
فاستحلوا بذلك تقضي أمره، فداسوا خصيتيه، وصفقوه فمات، وأشهدوا على موته أنه سليم به أثر، ودفن بمقبرة المنتصر.
وقيل: كان سبب خلعه وموته أن أهل الكرخ والدور اجتمعوا وطلبوا أن يدخلوا إلى المهتدي، ويكلموه حاجاتهم، فدخلوا الدار، وفيها أبونصر محمد بن بغا وغيره من القواد، فخرج أبونصر منهأن ودخل أهل الكرخ والدور، وشكوا حالهم إلى المهتدي، وهم في أربعة آلاف، وطلبوا منه أن يعزل منهم أمراءهم، وأن يصير الأمر إلى أخوته، وأن يأخذ القواد وكتابهم بالمال الذي صار إليهم، فوعدهم بإجابتهم إلى ما سألوه، فأقاموا يومهم في الدار، فحمل المهتدي إليهم ما يأكلون.
وسار محمد بن بغا إلى المحمدية، وأصبحوا من الغد يطلبون ما سألوه،فقيل لهم: إن هذا أمر صعب، وإخراج الأمر عن يد هؤلاء القواد ليس بسهل، فكيف إذا جمع إليه مطالبتهم بالأموال؟ فانظروا في أموركم، فإن كنتم تصبرون على هذا الأمر إلى أن نبلغ غايته، وإلا فأمير المؤمنين يحسن لكم النظر؛ فأبوا إلا ما سألوه، فدعوا إلى أيمان البيعة على أن يقيموا على هذا القول، وأن يقاتلوا من قاتلهم، وينصحوا أمير المؤمنين، فأجابوا إلى ذلك، فأخذت عليهم أيمان البيعة.
ثم كتبوا إلى أبي نصر عن أنفسهم، وعن المهتدي ينكرون خروجه عن الدار بغير سبب، وأنهم إمنا قصدوا ليشكوا حالهم، ولما رأوا الدار فارغة أقاموا فيهأن فرجع فحضر عند المهتدي، فقبل رجله ويده ووقف، فسأله عن الأموال وما يقوله الأتراك، فقال: وما أنا والأموال؟ قال: وهل هي إلا عندك وعند أخيك وأصحابكما؟ ثم أخذوا بيد محمد وحبسوه، وكتبوا إلى موسى بن بغا ومفلح بالانصراف إلى سامرأن وتسليم العسكر إلى قواد ذكروهم، وكتبوا إلى الأتراك الصغار في تسلم العسكر منهمأن وكروا ما جرى لهم، وقالوا: إن أجاب موسى ومفلح إلى ما أمرا به من الإقبال إلى سامرا وتسليم العسكر، وإلا فشدوهما وثاقأن واحملوهما إلى الباب.
وأجرى المهتدي على من أخذت عليه البيعة كل رجل درهمين، فلما وصلت الكتب إلى عسكر موسى أخذها موسى، وقرئت عليه وعلى الناس، وأخذوا عليهم البيعة بالنصرة لهم، وساروا نحوسامرأن فنزلوا عند قنطرة الرقيق لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب، وخرج المهتدي وعرض الناس. وعاد من يومه، وأصبح الناس من الغد وقد دخل من أصحاب موسى زهاء ألف فارس، منهم كوبكين وغيره، وعاد وخرج المهتدي فصف أصحابه، وفيهم من أتى من أصحاب موسى، وترددت الرسل بينهم وبين موسى يريد أن يولي ناحية ينصرف إليها وأصحاب المهتدي يريدون أن تجيء إليهم ليناظرهم على الأموال، فلم يتفقوا على شيء.
وانصرف عن موسى خلق كثير من أصحابه، فعدل هوومفلح يريدان طريق خراسان، وأقبل بابكيال وجماعة من القواد، فوصلوا إلى المهتدي، فسلموأن وأمرهم بالانصراف، وحبس بابكيال وقتله، ولم يتحرك أحد، ولا تغير شيء إلا تغيراً يسيرأن وكان ذلك يوم السبت.
فلما كان الأحد أنكر الأتراك مساواة الفراغنة لهم في الدار، ودخولهم معهم، ورفع أن الفراغنة إمنا تم لهم ما بعدم رؤساء الأتراك، فخرجوا من الدار بأجمعهم، وبقيت الدار على الفراغنة، والمغاربة، فأنكر الأتراك ذلك، وأضافوا إليه طلب بابكيال، فقال المهتدي للفراغنة والمغاربة ما جرى من الأتراك، وقال لهم: إن كنتم تظنون فيكم قوة فما أكره قربكم، وإلا أرضيناهم من قبل تفاقم الأمر! فذكروا أنهم يقومون به، فخرج بهم المهتدي وهم في ستة آلاف، منهم من الأتراك نحوألف وهم أصحاب صالح بن وصيف، وكان الأتراك في عشرة آلاف، فلما التقوا انهزم أصحاب صالح، وخرج عليهم كمين للأتراك، فانهزم أصحاب المهتدي؛ وذكر نحوما تقدم إلا أنه قال إنهم لما رأوا المهتدي بدار أحمد بن جميل قاتلهم، فأخرجوه، وكان به أثر طعنة، فلما رأى الجراح ألقى بيده إليهم، وأرادوه على الخلع، فأبى أن يجيبهم، فمات يوم الأربعاء وأظهروه لناس يوم الخميس، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد.
وكانوا قد خلعوا أصابع يديه ورجليه من كعبيه، وفعلوا به غير شيء حتى مات؛ وطلبوا محمد بن بغأن فوجدوه ميتأن فكسروا على قبره ألف سيف.
وكانت مدة خلافة المهتدي أحد عشر شهراً وخمس عشرة ليلة، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة، وكان واسع الجبهة، أسمر، رقيقأن أشهل، جهم الوجه، عريض البطن، عريض المنكبين، قصيرأن وطويل اللحية، ومولده بالقاطول.

.ذكر بعض سيرة المهتدي:

كان المهتدي بالله من احسن الخلفاء مذهبأن وأجملهم طريقة، وأظهرهم ورعأن وأكثرهم قال عبد اله بن إبراهيم الإسكافي: جلس المهتدي للمظالم، فاستعداه رجل على ابن له، فأمر بإحضاره، فأحضر وأقامه إلى جانب خصمه ليحكم بينهمأن فقال الرجل للمهتدي: والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قيل:
حكمتموه فقضى بينكم ** أبلج مثل القمر الزاهر

لا يقبلا الرشوة في حكمه ** ولا يبالي غبن الخاسر

فقال المهتدي: أما أنت أيها الرجل فأحسن اله مقالتك، وأما أنا فما جلست حتى قرأت: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} الأنبياء: 47؛ الآية؛ قال: فما رأيت باكياً أكثر من ذلك اليوم.
قال أبوالعباس بن هاشم بن القاسم الهاشمي: كنت عند المهتدي بعض عشايا شهر رمضان، فقمت لأنصرف، فأمرني بالجلوس، فجلست حتى صلى المهتدي بنا المغرب، وأمر بالطعام فاحضر، واحضر طبق خلاف عليه رغيفان، وفي إناء ملح، وفي آخر زيت، وفي آخر خل، فدعاني إلى الأكل، وأكلت مقتصراً ظناً مني أنه يحضر طعاماً جيدأن فلما رأى أكلي كذلك قال: أما كنت صائماً؟ قلت: بلى. قال: أفلست تريد الصوم غداً؟ قلت: وكيف لا وهوشهر رمضان؟ فقال: كل واستوف عشاءك، فليس ها هنا غير ما ترى. فعجبت من قوله، وقلت: ولم يا أمير المؤمنين؟ قد أسبغ اله عليك النعمة ووسع رزقهّ فقال: إن الأمر على ما وصفت، والحمد لله، ولكني فكرت في أنه من بني أمية عمر بن عبد العزيز، فعزت لبني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله وأخذت نفسي بما رأيت.
قال إبراهيم بن مخلد بن محمد بن عرفة عن بعض الهاشميين: إن المهتدي وجدوا له سفطاً فيه جبة صوف، وكساء، وبرنس كان يلبسه بالليل ويصلي فيه، ويقول: أما يستحي بنوالعباس أن لا يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز؟ وكان قد اطرح الملاهي، وحرم الغناء والشراب، ومنع أصحاب السلطان عن الظلم، رحمه الله تعالى ورضي عنه.

.ذكر خلافة المعتمد على الله:

لما أخذ المهتدي بالله وحبس أحضر أبوالعباس أحمد بن المتوكل، وهوالمعروف بابن قتيان، وكان محبوساً بالجوسق، فبايعه الناس، فبايعه الأتراك، وكتبوا بذلك إلى موسى بن بغا وهوبخانقين، فحضر إلى سامرا فبايعه، ولقب المعتمد على الله؛ ثم إن المهتدى مات ثاني يوم بيعة المعتمد، وسكن الناس، واستوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان.